شيطان صريع به نظرة من الإنس!
شيطان صريع به نظرة من الإنس!
للإمام ابن قيّم الجوزية
الطاعة تنوِّر القلب، وتجلوه وتصقُله، وتقوّيه وتثبته، حتّى يصير كالمرآة المجلوة في جلائها وصفائها فيمتلئ نوراً؛ فإذا دنا الشيطان منه أصابه من نوره ما يصيبُ مُسْتَرِقي السَّمعِ من الشهب الثواقب. فالشيطان يفرَق من هذا القلب أشدَّ من فرَقِ الذئب من الأسد، حتى إنّ صاحبه لَيصرَعُ الشيطان، فيخِرّ صريعاً، فيجتمع عليه الشياطين، فيقول بعضهم لبعض: ما شأنه؟ فيقال: أصابه إنسيّ، وبه نظرة من الأنس!
فيا نظرةً من قلبِ حُرٍ منوَّرٍ ... يكاد لها الشيطانُ بالنور يحرَقُ
أفيستوي هذا القلبُ، وقلبٌ مظلمةٌ أرجاؤه، مختلفةٌ أهواؤه، قد أتخذه الشيطان وطنَه، وأعدَّه مسكنَه. إذا تصبّح بطلعته حيّاه، وقال: فديتُ مَن لا يفلح في دنياه ولا في أخراه !
أنا قرينك في الدنيا وفي الحشر بعدها ... فانت قرينٌ لي بكلّ مكـانِ
فإن كـنتَ في دار الشقـاء فانّـني ... وأنت جميعاً في شقاً وهوان
قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ﴾.
فاخبر سبحانه أنْ من عشا عن ذكره - وهو كتابه الذي أنزله علي رسوله - فأعرض عنه، وعميَ عنه، وعشَتْ بصيرتُه عن فهمه وتدبّره ومعرفةِ مراد الله منه = قيّض الله له شيطاناً عقوبةً له بإعراضه عن كتابه. فهو قرينه الذي لا يفارقه لا في الإقامة ولا في المسير، ومولاه وعشيره الذي هو بئس المولى وبئس العشير.
رضيعَي لِبانٍ ثديَ أمٍّ تقاسما ... بأسحمَ داجٍ عوضُ لا نتفرَّقُ
ثم أخبر سبحانه أن الشيطان يصدّ قرينه ووليّه عن سبيله الموصل إليه وإلى جنته، ويحسب هذا الضالُّ المصدودُ أنَّه على طريق هدىً، حتى إذا جاء القرينان يوم القيامة يقول أحدهما للآخر: ياليت بيني وبينك بُعدَ المشرقين، فبئس القرين كنتَ لي في الدنيا! أضللتَني عن الهدى يعد إذ جاءني، وصددتَنى عن الحقّ، وأغوايتني حتى هلكتُ، وبئس القرين أنت لي اليوم!
ولما كان المصابُ إذا شاركه غيرُه في مصيبته حصل بالتأسّي نوع تخفيفٍ وتسليةٍ = أخبر الله سبحانه أنّ هذا غير موجود وغير حاصل في حقّ المشتركين في العذاب، وأنّ القرين لا يجد راحةً ولا أدنى فرحٍ بعذاب قرينه معه، وإن كانت المصائب في الدنيا إذا عمَّتْ صارت مَسْلاةً كما قالت الخنساء في أخيها صخر:
ولولا كثرةُ الباكين حـولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أغزّي النفسَ عنه باالتأسي
فمنع الله سبحانه هذا القدرَ من الراحة عن أهل النار فقال: ﴿وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ﴾.
نقله لكم
من كتاب الداء والدواء لابن القيم ص 222
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق